Loading...
السورة
الأية
الجزء

الحزب رقم 1
الربع رقم 1
quran-border  ان الذين كفروا سواء عليهم اانذرتهم ام لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ومن الناس من يقول امنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين امنوا وما يخدعون الا انفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون واذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون واذا قيل لهم امنوا كما امن الناس قالوا انؤمن كما امن السفهاء الا انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون واذا لقوا الذين امنوا قالوا امنا واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
Page Number

1

{الم} وسائر الألفاظ التي يتهجى بها، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم، واعتوار ما يخص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها، وبه صرح الخليل وأبو علي. وما روي ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف» فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف مجدَّد بل المعنى اللغوي، ولعله سماه باسم مدلوله. ولما كانت مسمياتها حروفاً وحداناً وهي مركبة، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها وهي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه ومقتضيه، لكنها قابلة إياه ومعرضة له إذا لم تناسب مبنى الأصل ولذلك قيل: {ص} و{ق} مجموعاً فيهما بين الساكنين ولم تعامل معاملة أين وهؤلاء. ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها. افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظاً لمن تحدى بالقرآن وتنبيهاً على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بنوع من الإعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه، وهو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسماً هي نصف أسامي حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفاً برأسها في تسع وعشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها، فذكر من المهموسة وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه ويجمعها: (ستشحثك خصفه) نصفها الحاء والكاف والهاء والصاد والسين والكاف، ومن البواقي المجهورة نصفها يجمعه: (لن يقطع أمر). ومن الشديدة الثمانية المجموعة في: (أجدت طبقك) أربعة يجمعها: (أقطك). ومن البواقي الرخوة عشرة يجمعها: (خمس) على نصره، ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها، ومن البواقي المنفتحة نصفها، ومن القلقلة وهي: حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها: (قد طبج) نصفها الأقل لقلتها، ومن اللينتين الياء لأنها أقل ثقلاً، ومن المستعلية وهي: التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى، وهي سبعة القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل، ومن البواقي المنخفضة نصفها، ومن حروف البدل وهي أحد عشر على ما ذكره سيبويه، واختاره ابن جني ويجمعها: (أحد طويت) منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها (أهطمين) وقد زاد بعضهم سبعة أخرى وهي اللام في (أصيلال) والصاد والزاي في (صراط وزراط) والفاء في (أجداف) والعين في (أعن) والثاء في (ثروغ الدلو) والباء في (باسمك) حتى صارت ثمانية عشر وقد ذكر منها تسعة الستة المذكورة واللام والصاد والعين. ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب وهي خمسة عشر: الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو نصفها الأقل. ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر: الحاء والقاف والراء والسين واللام والنون لما في الإدغام من الخفة والفصاحة، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها ويدغم فيها مقاربها وهي: الميم والزاي والسين والفاء نصفها. ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان وهي ستة يجمعها (رب منفل) والحلقية التي هي الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما. ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها (اليوم تنساه) سبعة أحرف منها تنبيهاً على ذلك، ولو استقريت الكلم وتراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، إيذاناً بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة، ومركبة من حرفين فصاعداً إلى الخمسة، وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة: الاسم والفعل والحرف وأربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف كـ (بل)، وفي الفعل بحذف ثقل كـ (قل). وفي الاسم بغير حذف كـ (من)، وبه كدم في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه: ففي الأسماء من وإذ وذو. وفي الأفعال قل وبع وخف. وفي الحروف من وإن ومذ على لغة من جربها. وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيهاً على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، وثلاثة للأفعال، ورباعيتين وخماسيتين تنبيهاً على أن لكل منهما أصلاً: كجعفر وسفرجل، وملحقاً: كقردد وجحنفل، ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنبيه والمبالغة فيه. والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف. أو المؤلف منها، كذا وقيل: هي أسماء للسور، وعليه إطباق الأكثر. سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي، ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدى. ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة، فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها، أو غير ذلك. والثاني باطل لأنه؛ إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك، أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} فلا يحمل على ما ليس في لغتهم. لا يقال: لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه؟ والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر؟ كما قاله قطرب، أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله: قلتُ لها قفي فقالتْ قَافْ *** كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الألف آلاء الله، واللام لفظه، والميم ملكه. وعنه أن الر وحم ون مجموعها الرحمن. وعنه أن الم معناه: أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح. وعنه أن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد أي: القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكاً بما روي: «أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود تلا عليهم الم البقرة فحسبوه وقالوا: كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فهل غيره، فقال: المص والر والمر، فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ». فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك، وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة والسجيل والقسطاس، أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسماً بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه. هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، ويستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة، لأنا نقول: إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع والاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لها معنى في حيزها ولم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم، أما الشعر فشاذ، وأما قول ابن عباس، فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير، وتخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظاً ومعنى ولا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات، والحديث لا دليل فيه، لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجباً من جهلهم، وجعلها مقسماً بها وإن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها، والتسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسماً واحداً على طريقة بعلبك، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد فلا، وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، والمسمى هو مجموع السورة والاسم جزؤها فلا اتحاد، وهو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسماً، فلا دور لاختلاف الجهتين. والوجه الأول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود بالعلمية، وقيل: إنها أسماء القرآن ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن. وقيل: إنها أسماء لله تعالى ويدل عليه أن علياً كرم الله وجهه كان يقول: يا كهيعص، ويا حمعسق، ولعله أراد يا منزلهما. وقيل الألف: من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام: من طرف اللسان وهو أوسطها، والميم: من الشفة وهو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى. وقيل: إنه سر استأثره الله بعلمه وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد. فإن جعلتها أسماء الله تعالى، أو القرآن، أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء، أو الخبر، أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر، أو الجر على إضمار حرف القسَم، ويتأتى الإعراب لفظاً والحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل، والحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك، وسيعود إليك ذكره مفصلاً إن شاء الله تعالى، وإن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مر، وإن جعلتها مقسماً بها يكون كل كلمة منها منصوباً أو مجروراً على اللغتين في الله لأفعلن، وتكون جملة قسمية بالفعل المقدر له، وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتاً منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها، وليس شيء منها آية عند غير الكوفيين. وأما عندهم ف {الم} في مواضعها، و{المص} و{كهيعص} و{طه} و{طسم} و{طس} و{يس} و{حم} آية، و{حم} {عَسَق} آيتان، والبواقي ليست بآيات وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه.

{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة} تعليل للحكمِ السابق وبيان لما يقتضيه. والختم الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له والبلوغ آخره نظراً إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه. والغشاوة: فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشيء، كالعصابة والعمامة ولا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق، وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين، فتصير كأنها غُطي عليها. وحيل بينها وبين الإبصار، وسماه على الاستعارة ختماً وتغشية. أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختماً وتغطية، وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم} وبالاغفال في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} وبالاقساء في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وهي من حيث إن الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه ومن حيث إنها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} وردت الآية ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم. واضطربت المعتزلة فيه فذكروا وجوهاً من التأويل: الأول: أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه. الثاني: أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن. أو قلوب مقدر ختم الله عليها، ونظيره: سال به الوادي إذا هلك. وطارت به العنقاء إذا طالت غيبته. الثالث: أن ذلك في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، لكن لما كان صدوره عنه بإقداره تعالى إياه أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب. الرابع: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يقسرهم إبقاء على غرض التكليف، عبر عن تركه بالختم فإنه سد لإيمانهم. وفيه إشعار على تمادي أمرهم في الغي وتناهي انهماكهم في الضلال والبغي. الخامس: أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولون مثل: {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} تهكماً واستهزاءً بهم وكقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} الآية. السادس: أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحققه وتيقن وقوعه ويشهد له قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} السابع: أن المراد بالختم وَسْمُ قُلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم وينفرون عنهم، وعلى هذا المنهاج كلامنا وكلامهم فيما يضاف إلى الله تعالى من طبع وإضلال ونحوهما. و{على سَمْعُهُمْ} معطوف على قلوبهم لقوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} وللوفاق على الوقف عليه، ولأنهما لما اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة، وكرر الجار ليكون أدل على شدة الختم في الموضعين واستقلال كل منهما بالحكم. ووحد السمع للأمن من اللبس واعتبار الأصل، فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع. أو على تقدير مضاف مثل وعلى حواس سمعهم. والأبصار جمع بصر وهو: إدراك العين، وقد يطلق مجازاً على القوة الباصرة، وعلى العضو وكذا السمع، ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشد مناسبة للختم والتغطية، وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق ويراد به العقل والمعرفة كما قال تعالى: {إِنَّ فِى ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأن الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير. و{غشاوة} رفع بالابتداء عند سيبويه، وبالجار والمجرور عند الأخفش، ويؤيده العطف على الجملة الفعلية. وقرئ بالنصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار وإيصال الختم بنفسه إليه والمعنى: وختم على أبصارهم بغشاوة، وقرئ بالضم والرفع، وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها. و{غشوة} بالكسر مرفوعة، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة و{عشاوة} بالعين الغير المعجمة. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} وعيد وبيان لما يستحقونه. والعذاب كالنكال بناءً، ومعنى تقول: عذب عن الشيء ونكل عنه إذا أمسك، ومنه الماء العذب لأنه يقمع العطش ويردعه ولذلك سمي نقاخاً وفراتاً، ثم اتسع فأطلق على كل ألم قادح وإن لم يكن نكالاً، أي: عقاباً يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما. وقيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية والتمريض. والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكما أن الحقير دون الصغير، فالعظيم فوق الكبير، ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه ومعنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.

{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر} لما افتتح سبحانه وتعالى بشرح حال الكتاب وساق لبيانه، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ولم يلتفتوا لفتة رأساً، ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للقسم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاءً، ولذلك طول في بيان خبثهم وجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم، وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم: {إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار} وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المُصِّرِّينَ. والناس أصله أناس لقولهم: إنسان وأنس وأناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يُجْمَع بينهما. وقوله: إنَّ المنايا يَطَّلِعْنَ على الإِناس الآمنِينَا *** شاذ. وهو اسم جمع كرجال، إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع. مأخوذ من أنس لأنهم يستأنسون بأمثالهم. أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون، ولذلك سموا بشراً كما سمي الجن جناً لاجتنانهم. واللام فيه للجنس، ومن موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال: ومن الناس ناسٌ يقولون. أو للعهد والمعهود: هم الذين كفروا، ومن موصولة مراد بها ابن أبي وأصحابه ونظراؤه، فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم، واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس، فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيماً للقسم الثاني. واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر، تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه، وإيذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه، فكيف بما يقصدون به النفاق، لأن القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيماناً كلا إيمان، لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد، وإن الجنة لا يدخلها غيرهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغيرها، ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم. وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيماناً، فكيف وقد قالوه تمويهاً على المسلمين وتهكماً بهم. وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام. والقول هو التلفظ بما يفيد، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازاً. والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي. أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة. {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته، وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيداً. أو مبالغة في التكذيب، لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه. والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً، لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً. والخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم.

{يخادعون الله والذين ءامَنُوا} الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه، وعما هو بصدده من قولهم: خدع الضب. إذ توارى في جحره، وضب خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة، والأخدعان لعرقين خفيين في العنق، والمخادعة تكون بين اثنين. وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تُخْفَى عليه خافية، ولأنهم لم يقصدوا خديعته. بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار، استدراجاً وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين. ويحتمل أن يراد ب {يخادعون} يخدعون لأنه بيان ليقول، أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين. ويحتمل أن يراد ب {يخادعون} يخدعون لأنه بيان ليقول، أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه، إلا أنه أخرج في زنة فَاعَلَ للمبالغة، فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه، كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك، ويعضده قراءة من قرأ: {يَخَدِعُونَ} وكان غرضهم في ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة، وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء، وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد. {وَمَا يُخَادَِعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والمعنى: أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية. وقرأ الباقون: {وَمَا}، لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرئ: {يَخَدِعُونَ} من خدع و{يَخَدِعُونَ} بمعنى يختدعون و{يَخَدِعُونَ} و{يخادعون} على البناء للمفعول، ونصب أنفسهم بنزع الخافض، والنفس ذات الشيء وحقيقته، ثم قيل للروح لأن نفس الحي به، وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقه، وللدم لأن قوامها به، وللماء لفرط حاجتها إليه، وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتاً تأمره وتشير عليه. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم. {وَمَا يَشْعُرُونَ} لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم. جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس. والشعور: الإحساس، ومشاعر الإنسان حواسه، وأصله الشعر ومنه الشعار.

{فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله. ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي، لأنها مانعة من نيل الفضائل، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية. والآية الكريمة تحتلهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقاً على ما فات عنهم من الرياسة، وحسداً على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره وإشادة ذكره، ونفوسهم كانت موصوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها، فزاد الله سبحانه وتعالى ذلك بالطبع. أو بازدياد التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر، وكان إسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث إنه مسبب من فعله وإسنادها إلى السورة في قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} لكونها سبباً. ويحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن والخور حين شاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة، وقذف الرعب في قلوبهم وبزيادته تضعيفه بما زاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة على الأعداء وتبسطاً في البلاد. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم يقال: ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع، وصف به العذاب للمبالغة كقوله: تحيةُ بينِهمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ *** على طريقة قولهم: جد جده. {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} قرأها عاصم وحمزة والكسائي، والمعنى بسبب كذبهم، أو ببدله جزاء لهم وهو قولهم آمنا. وقرأ الباقون: {يُكَذِّبُونَ}، من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام بقلوبهم، وإذا خلوا إلى شياطينهم. أو من كذَّب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشيء وموتت البهائم. أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطاً وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد. والكذب: هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به. وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب عليه. وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض. ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به.

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} لما ذكر خاصة عباده، وخلاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح، عقبهم بأضدادهم العتاة المردة، الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر، ولم يعطف قصتهم على قصة المؤمنين كما عطف في قوله تعالى: {إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} لتباينهما في الغرض، فإن الأولى سيقت لذكر الكتاب وبيان شأنه والأخرى مسوقة لشرح تمردهم، وانهماكهم في الضلال، و(إن) من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء وإعطاء معانيه، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين. ولذلك أعملت عمله الفرعي وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني إيذاناً بأنه فرع في العمل دخيل فيه. وقال الكوفيون: الخبر قبل دخولها كان مرفوعاً بالخبرية، وهي بعد باقية مقتضية للرفع قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف. وأجيب بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف. وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها، ولذلك يُتَلَقَّى بها القَسَم ويصدر بها الأجوبة، وتذكر في معرض الشك مثل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض}، {وَقَالَ موسى يافرعون إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين} قال المبرد: قولك: عبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم، جواب سائل عن قيامه، وإن عبد الله لقائم، جواب منكر لقيامه. وتعريف الموصول: إما للعهد، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأحبار اليهود. أو للجنس، متناولاً من صمم على الكفر، وغيرهم. فخص منهم غير المصرين بما أسند إليه. والكفر لغة: ستر النعمة، وأصله الكَفْر بالفتح وهو الستر، ومنه قيل للزارع ولليل كافر، ولكمام الثمرة كافور. وفي الشرع: إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به، وإنما عُدَّ لبس الغيار وشد الزنار ونحوهما كفراً لأنها تدل على التكذيب، فإن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجترئ عليها ظاهراً لا أنها كفر في أنفسها. واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه لاستدعائه سابقة المخبر عنه، وأجيب بأنه مقتضى التعلق وحدوثه لا يستلزم حدوث الكلام كما في العلم. {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} خبر إن وسواء اسم بمعنى الاستواء، نعت به كما نعت بالمصادر قال الله تعالى: {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} رفع بأنه خبر إن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه، أو بأنه خبر لما بعده بمعنى: إنذارك وعدمه سيان عليهم، والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو أطلق وأريد به اللفظ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمناً على الاتساع فهو كالاسم في الإضافة، والإسناد إليه كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ} وقوله: {يَوْمَ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} وقولهم: تَسْمَعُ بِالْمِعيديِّ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَراَه. وإنما عدل هاهنا عن المصدر إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد وحسن دخول الهمزة، وأم عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء، كما جردت حروف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. والإنذار: التخويف أريد به التخويف من عذاب الله، وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشد تأثيراً في النفس، من حيث إن دفع الضر أهم من جلب النفع، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى، وقرئ: {ءَأَنذَرْتَهُمْ} بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين، وقلبها ألفاً وهو لحن لأن المتحركة لا تقلب، ولأنه يؤدي إلى جمع الساكنين على غير حده، وبتوسيط ألف بينهما محققتين، وبتوسيطها والثانية بين بين وبحذف الاستفهامية، وبحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها. {لاَ يُؤْمِنُونَ} جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة. أو بدل عنه. أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم. والآية مما احتج به من جوز تكليف ما لا يطاق، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان، فلو آمنوا انقلب خبره كذباً. وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان، والحق أن التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكام لا تستدعي غرضاً سيما الامتثال، لكنه غير واقع للاستقراء، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره، وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا ينجح إلزام الحجة، وحيازة الرسول فضل الإبلاغ، ولذلك قال: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} ولم يقل سواء عليك. كما قال لعبدة الأصنام: {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون}. وفي الآية إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات.

{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} رد لما ادعوه أبلغَ رد للاستئناف به وتصديره بحرفي التأكيد: {ألا} المنبهة على تحقيق ما بعدها، فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقاً، ونظيره {أليس ذلك بقادر}، ولذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يلتقي به القسم، وأختها أما التي هي من طلائع القسم: وإن المقررة للنسبة، وتعريف الخبر وتوسيط الفصل لرد ما في قولهم: {إنما نحن مصلحون} من التعريض للمؤمنين، والاستدراك ب {لاَّ يَشْعُرُونَ}. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ} من تمام النصح والإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين: الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله: {لاَ تُفْسِدُواْ}، والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله: {ءامَنُواْ} {كَمَا ءامَنَ الناس} في حيز النصب على المصدر، وما مصدرية أو كافة مثلها في ربما، واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقاً يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، ولذلك يسلب عن غيره فيقال: زيد ليس بإنسان، ومن هذا الباب قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} ونحوه وقد جمعهما الشاعر في قوله: إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان *** أو للعهد، والمراد به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه. أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه، والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص متمحضاً عن شوائب النفاق مماثلاً لإيمانهم، واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان وإن لم يفد التقييد. {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} الهمزة فيه للإنكار، واللام مشار بها إلى الناس، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم، وإنما سَفَّهُوهُم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي: كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفه: خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل، والحلم يقابله.

{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} الهمزة فيه للإنكار، واللام مشار بها إلى الناس، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم، وإنما سَفَّهُوهُم لاعتقادهم فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي: كصهيب وبلال، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه. والسفه: خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل، والحلم يقابله. {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} رد ومبالغة في تجهيلهم، فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله، فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر، وإنما فصلت الآية ب {لاَّ يَعْلَمُونَ} والتي قبلها ب {لاَّ يَشْعُرُونَ} لأنه أكثر طباقاً لذكر السفه، ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وفكر. وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يُشَاهد من أقوالهم وأفعالهم.

{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} بيان لمعاملتهم المؤمنين والكفار، وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير. روي أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة، فقال لقومه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: مرحباً بالصديق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال: مرحباً بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه سيد بني هاشم، ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت. واللقاء المصادفة يقال؛ لقيته ولاقيته، إذا صادفته واستقبلته، ومنه ألقيته إذا طرحته فإنك بطرحه جعلته بحيث يلقى. {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} من خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه. أو من خلاك ذَمٌّ أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية. أو من خلوت به إذا سخرت منه، وعدي بإلى لتضمن معنى الإنهاء، والمراد بشياطينهم الذين ماثلوا الشيطان في تمردهم، وهم المظهرون كفرهم، وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم. وجعل سيبويه نونه تارة أصلية على أنه من شطن إذا بعد فإنه بعيد عن الصلاح، ويشهد له قولهم: تشيطن. وأخرى زائدة على أنه من شاط إذا بطل، ومن أسمائه الباطل. {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} أي في الدين والاعتقاد، خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، والشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة بإن لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق رغبة فيما خاطبوا به المؤمنين، ولا توقع رواج ادعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار. {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} تأكيد لما قبله، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به مُصِرٌّ على خلافه. أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم لما {قالوا إنا معكم} إن صح ذلك فما بالكم توافقون المؤمنين وتدعون الإيمان فأجابوا بذلك. والاستهزاء السخرية والاستخفاف يقال: هزئت واستهزأت بمعنى كأجبت واستجبت، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع يقال: هزأ فلان إذا مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف.

{الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} يجازيهم على استهزائهم، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة، إما لمقابلة اللفظ باللفظ، أو لكونه مماثلاً له في القدر، أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم، أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء، أو الغرض منه، أو يعاملهم معاملة المستهزئ: أما في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم، واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان، وأما في الآخرة: فبأن يفتح لهم وهم في النار باباً إلى الجنة فيسرعون نحوه، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب، وذلك قوله تعالى: {فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى تولى مجازاتهم، ولم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم، وأنَّ استهزاءهم لا يؤبه به في مقابلة ما يفعل الله تعالى بهم ولعله لم يقل: الله مستهزئ بهم ليطابق قولهم، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالاً فحالاً ويتجدد حيناً بعد حين، وهكذا كانت نكايات الله فيهم كما قال تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} {وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه، ومنه مددت السراج والأرض إذا استصلحتهما بالزيت والسماد، لا من المد في العمر فإنه يعدى باللام كأملى له. ويدل عليه قراءة ابن كثير: {ويمدهم}. والمعتزلة لما تعذر عليهم إجراء الكلام على ظاهره قالوا: لما منعهم الله تعالى ألطافة التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم، وسدهم طرق التوفيق على أنفسهم فتزايدت بسببه قلوبهم ريناً وظلمة، تزايد قلوب المؤمنين انشراحاً ونوراً، وأمكن الشيطان من إغوائهم فزادهم طغياناً، أُسْنِدَ ذلك إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى المسبب مجازاً، وأضاف الطغيان إليهم لئلا يتوهم أن إسناد الفعل إليه على الحقيقة، ومصداق ذلك أنه لما أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي وقال: {وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى} أو أصله يمد لهم بمعنى يملي لهم ويمد في أعمارهم كي يتنبهوا ويطيعوا، فما زادوا إلا طغياناً وعمهاً، فحذفت اللام وعدى الفعل بنفسه كما في قوله تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ} أو التقدير يمدهم استصلاحاً، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم. والطغيان بالضم والكسر كلقيان، والطغيان: تجاوز الحد في العتو، والغلو في الكفر، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طغى الماء حملناكم} والعمه في البصيرة كالعمى في البصر، وهو: التحير في الأمر يقال رجل عامه وعمه، وأرض عمهاء لا منار بها، قال: أَعْمَى الهُدَى بالجاهِلين العمهْ ***

{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} اختاروها عليه واستبدلوها به، وأصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان، فإن كان أحد العوضين ناضاً تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء، وإلا فأي العوضين تصورته بصورة الثمن فباذله مشترٍ وآخذه بائع، ولذلك عدت الكلمتان من الأضداد، ثم استعير للإعراض عما في يده محصلاً به غيره، سواء كان من المعاني أو الأعيان، ومنه قول الشاعر: أخذْتُ بالجُمْلةِ رأساً أَزْعَرا *** وبالثَّنايَا الواضِحَاتِ الدّرَرا وبالطَّويل العُمرِ عمراً جيذرا *** كما اشْتَرَى المُسْلمُ إذ تَنَصَّرا ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فُطِرَ الناسُ عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها. أو اختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى. {فَمَا رَبِحَت تجارتهم}. ترشيح للمجاز، لَمَّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله تمثيلاً لخسارتهم، ونحوه: وَلَّما رأيتُ النسرَ عزَّ بنَ دأية *** وعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْري والتجارة: طلب الربح بالبيع والشراء والربح: الفضل على رأس المال، ولذلك سمي شفا، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على الاتساع لتلبسها بالفاعل، أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب الربح والخسران. {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} لطرق التجارة، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين لأن رأس مَالِهم كان الفطرة السليمة، والعقل الصرف، فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم، واختل عقلهم ولم يبقَ لهم رأس مال يتوسلون به إلى درك الحق، ونيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين للأصل.