Loading...
السورة
الأية
الجزء

الحزب رقم 1
الربع رقم 1
quran-border  الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون اولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون
Page Number

1

{الم} وسائر الألفاظ التي يتهجى بها، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم، واعتوار ما يخص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها، وبه صرح الخليل وأبو علي. وما روي ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف» فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف مجدَّد بل المعنى اللغوي، ولعله سماه باسم مدلوله. ولما كانت مسمياتها حروفاً وحداناً وهي مركبة، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها وهي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه ومقتضيه، لكنها قابلة إياه ومعرضة له إذا لم تناسب مبنى الأصل ولذلك قيل: {ص} و{ق} مجموعاً فيهما بين الساكنين ولم تعامل معاملة أين وهؤلاء. ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها. افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظاً لمن تحدى بالقرآن وتنبيهاً على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بنوع من الإعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه، وهو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسماً هي نصف أسامي حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفاً برأسها في تسع وعشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها، فذكر من المهموسة وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه ويجمعها: (ستشحثك خصفه) نصفها الحاء والكاف والهاء والصاد والسين والكاف، ومن البواقي المجهورة نصفها يجمعه: (لن يقطع أمر). ومن الشديدة الثمانية المجموعة في: (أجدت طبقك) أربعة يجمعها: (أقطك). ومن البواقي الرخوة عشرة يجمعها: (خمس) على نصره، ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها، ومن البواقي المنفتحة نصفها، ومن القلقلة وهي: حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها: (قد طبج) نصفها الأقل لقلتها، ومن اللينتين الياء لأنها أقل ثقلاً، ومن المستعلية وهي: التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى، وهي سبعة القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل، ومن البواقي المنخفضة نصفها، ومن حروف البدل وهي أحد عشر على ما ذكره سيبويه، واختاره ابن جني ويجمعها: (أحد طويت) منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها (أهطمين) وقد زاد بعضهم سبعة أخرى وهي اللام في (أصيلال) والصاد والزاي في (صراط وزراط) والفاء في (أجداف) والعين في (أعن) والثاء في (ثروغ الدلو) والباء في (باسمك) حتى صارت ثمانية عشر وقد ذكر منها تسعة الستة المذكورة واللام والصاد والعين. ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب وهي خمسة عشر: الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو نصفها الأقل. ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر: الحاء والقاف والراء والسين واللام والنون لما في الإدغام من الخفة والفصاحة، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها ويدغم فيها مقاربها وهي: الميم والزاي والسين والفاء نصفها. ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان وهي ستة يجمعها (رب منفل) والحلقية التي هي الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما. ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها (اليوم تنساه) سبعة أحرف منها تنبيهاً على ذلك، ولو استقريت الكلم وتراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، إيذاناً بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة، ومركبة من حرفين فصاعداً إلى الخمسة، وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة: الاسم والفعل والحرف وأربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف كـ (بل)، وفي الفعل بحذف ثقل كـ (قل). وفي الاسم بغير حذف كـ (من)، وبه كدم في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه: ففي الأسماء من وإذ وذو. وفي الأفعال قل وبع وخف. وفي الحروف من وإن ومذ على لغة من جربها. وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيهاً على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، وثلاثة للأفعال، ورباعيتين وخماسيتين تنبيهاً على أن لكل منهما أصلاً: كجعفر وسفرجل، وملحقاً: كقردد وجحنفل، ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنبيه والمبالغة فيه. والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف. أو المؤلف منها، كذا وقيل: هي أسماء للسور، وعليه إطباق الأكثر. سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي، ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدى. ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة، فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها، أو غير ذلك. والثاني باطل لأنه؛ إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك، أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} فلا يحمل على ما ليس في لغتهم. لا يقال: لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه؟ والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر؟ كما قاله قطرب، أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله: قلتُ لها قفي فقالتْ قَافْ *** كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الألف آلاء الله، واللام لفظه، والميم ملكه. وعنه أن الر وحم ون مجموعها الرحمن. وعنه أن الم معناه: أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح. وعنه أن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد أي: القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكاً بما روي: «أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود تلا عليهم الم البقرة فحسبوه وقالوا: كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فهل غيره، فقال: المص والر والمر، فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ». فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك، وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة والسجيل والقسطاس، أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسماً بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه. هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، ويستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة، لأنا نقول: إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع والاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لها معنى في حيزها ولم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم، أما الشعر فشاذ، وأما قول ابن عباس، فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير، وتخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظاً ومعنى ولا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات، والحديث لا دليل فيه، لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجباً من جهلهم، وجعلها مقسماً بها وإن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها، والتسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسماً واحداً على طريقة بعلبك، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد فلا، وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، والمسمى هو مجموع السورة والاسم جزؤها فلا اتحاد، وهو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسماً، فلا دور لاختلاف الجهتين. والوجه الأول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود بالعلمية، وقيل: إنها أسماء القرآن ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن. وقيل: إنها أسماء لله تعالى ويدل عليه أن علياً كرم الله وجهه كان يقول: يا كهيعص، ويا حمعسق، ولعله أراد يا منزلهما. وقيل الألف: من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام: من طرف اللسان وهو أوسطها، والميم: من الشفة وهو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى. وقيل: إنه سر استأثره الله بعلمه وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد. فإن جعلتها أسماء الله تعالى، أو القرآن، أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء، أو الخبر، أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر، أو الجر على إضمار حرف القسَم، ويتأتى الإعراب لفظاً والحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل، والحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك، وسيعود إليك ذكره مفصلاً إن شاء الله تعالى، وإن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مر، وإن جعلتها مقسماً بها يكون كل كلمة منها منصوباً أو مجروراً على اللغتين في الله لأفعلن، وتكون جملة قسمية بالفعل المقدر له، وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتاً منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها، وليس شيء منها آية عند غير الكوفيين. وأما عندهم ف {الم} في مواضعها، و{المص} و{كهيعص} و{طه} و{طسم} و{طس} و{يس} و{حم} آية، و{حم} {عَسَق} آيتان، والبواقي ليست بآيات وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه.

{ذلك الكتاب} ذلك إشارة إلى {الم} إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعداً أشير إليه بما يشار به إلى البعيد وتذكيره، متى أريد ب {الم} السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} أو في الكتب المتقدمة. وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة. وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب. وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة. {لاَ رَيْبَ فِيهِ} معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحياً بالغاً حد الإعجاز، لا أن أحداً لا يرتاب فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المُريح له، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة. وقيل: معناه لا ريب فيه للمتقين. وهدى حال من الضمير المجرور، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي. والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة، وهي قلق النفس واضطرابها، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة. وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة، ومنه ريب الزمان لنوائبه. {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} يهديهم إلى الحق، والهدى في الأصل كالسرى والتقى ومعناه الدلالة. وقيل: الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى: {لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ} ولأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب. واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى: {هُدًى لّلنَّاسِ} أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبر الآيات والنظر في المعجزات، وتعرف النبوات، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعاً ما لم تكن الصحة حاصلة، وإليه أشار بقوله تعالى: {وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا} ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه. والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة، وله ثلاث مراتب: الأولى: التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} الثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع، وهو المعنى بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا} الثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} وقد فسر قوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} هاهنا على الأوجه الثلاثة. واعلم أن الآية تحتمل أوجهاً من الإعراب: أن يكون {الم} مبتدأ على أنه اسم للقرآن. أو السورة. أو مقدر بالمؤلف منها، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقاً، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك. وأن يكون {الم} خبر مبتدأ محذوف وذلك خبراً ثانياً. أو بدلاً والكتاب صفته، و{لاَ رَيْب} في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إنَّ، لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها. وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم في قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ} لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة، أو صفته وللمتقين خبره. و{هدى} نصب على الحال، أو الخبر محذوف كما في {لا}، ضمير. فلذلك وقف على {لاَ رَيْبَ}، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير: لا ريب فيه، فيه هدى، وأن يكون ذلك مبتدأ و{الكتاب} خبره على معنى: أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر {الم} والأولى أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما. ف {الم}، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم، وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي، و{لاَ رَيْبَ فِيهِ}، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كمال أعلى مما للحق واليقين. و{هُدًى لّلْمُتَّقِينَ}، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقاً لا يحوم الشك حوله بأنه {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ}، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول، وبيانه أنه لما نبه أولاً على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة، وما كان كذلك كان لا محالة {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ}، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل، وفي الثانية فخامة التعريف، وفي الثالثة تأخير الظرف حذراً عن إيهام الباطل، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكراً للتعظيم وتخصيص الهُدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقياً إيجازاً وتفخيماً لشأنه.

{الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية، والتصوير على التصقيل. أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالباً، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمُنكر} وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام» أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين. وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى. أو على أنه مدح منصوب، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين. وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى، فيكون الوقف على المتقين تاماً. والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن، كأن المصدِّق أمن من المصدَّق التكذيب والمخالفة، وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب. وأما في الشرع: فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء، ومجموع ثلاثة أمور: اعتقاد الحق، والإقرار به، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج. فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالإقرار فكافر، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقاً، وكافر عند الخوارج، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان} {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ} وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقاً. ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه. والغيب مصدر، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيباً، أو فيعل خفف كقيل، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وقسم نصب موقع عليه دليل: كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به. وإن جعلته حالاً على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء. والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا {لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية. وقيل المراد بالغيب: القلب لأنه مستور، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فالباء على الأول للتعدية. وعلى الثاني للمصاحبة. وعلى الثالث للآلة. {وَيُقِيمُونَ الصلاة} أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال: أقَامتْ غزالةً سُوقَ الضُراب *** لأهْلِ العِرَاقينِ حَولاً قَمِيطا فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد، وضده قعد عن الأمر، وتقاعد. أو يؤدونها. عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح. والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب، وأفيد لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى، لا {لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ}، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة، وفي معرض الذم فويل للمصلين، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى، كتبتا بالواو على لفظ المفخم، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء. وقيل: أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه، وإنما سمي الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشعه بالراكع الساجد. {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} الرزق في اللغة: الحظ قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه. وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه، قالوا: الحرام ليس برزق، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق هاهنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال المطلق. فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً} وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق، والذم لتحريم ما لم يحرم. واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة. وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن قرة: «لقد رزقك الله طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله». وبأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً، وليس كذلك لقوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} وأنفق الشيء وأنفده أخوان، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالاً على معنى الذهاب والخروج، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل. ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها. وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه. ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: «إن عِلماً لا يُقال به، ككنزٌ لا يُنفق منه» وإليه ذهب من قال: ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون.

{والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه، معطوفون على {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم، إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار، وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلاً {لّلْمُتَّقِينَ} وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. أو على المتقين وكأنه قال: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} عن الشرك، والذين آمنوا من أهل الملل. ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم، وَوُسِّط العاطف كما وسط في قوله: إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهمام *** وليْثِ الكتيبةِ في المزْدَحمْ وقوله: يا لهفَ ذؤابةَ للحارثِ الصَ *** ائحِ فالغَانمِ فالآيِبِ على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع. وكرر الموصول تنبيهاً على تغاير القبيلين وتباين السبيلين. أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب، ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم. والإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها، ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى تلقفاً روحانياً، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول. والمراد {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد. أو تنزيلاً للمنتظر منزلة الواقع، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} فإن الجنَّ لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله مُنَزَّلاً حينئذ. وبما {أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة، والإيمان بها جملةً فرض عين، وبالأول دون الثاني تفصيلاً من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض، ولكن على الكفاية. لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش. {وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} أي يوقنون إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، واختلافهم في نعيم الجنة: أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره؟ وفي دوامه وانقطاعه، وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على هم تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب، وبأن اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق ولا صادر عن إيقان. واليقين: إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه نظراً واستدلالاً، ولذلك لا يوصف به علم البارئ، ولا العلوم الضرورية. والآخرة تأنيث الآخر، صفة الدار بدليل قوله تعالى: {تِلْكَ الدار الآخرة} فغلبت كالدنيا، وعن نافع أنه خففها بحذف الهمزة إلقاء حركتها على اللام، وقرئ: {يوقنون} بقلب الواو همزة لضم ما قبلها إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقتت ونظيره: لحبِّ المؤقدان إلى مؤسَى *** وجعدةَ إذ أضاءهما الوقودُ

{أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ} الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولاً عن المتقين خبر له، فكأنه لما قيل: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} قيل ما بالهم خصوا بذلك؟ فأجيب بقوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} إلى آخر الآيات. وإلا فاستئناف لا محل لها، فكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة. أو جواب سائل قال: ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان، فإن اسم الإشارة هاهنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه، فإن ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنه الموجب له. ومعنى الاستعلاء في {على هُدًى} تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه، وقد صرحوا به في قولهم: امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى، وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل. ونُكِّرَ {هدىً} للتعظيم. فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره، ونظيره قول الهذلي: فلا وأبي الطيرُ المربَّةَ بالضُّحَى *** على خالدٍ لقدْ وقَعْتَ على لحم وأُكِد تعظيمه بأن الله تعالى مَانِحُهُ والموفق له، وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة. {وأولئك هُمُ المفلحون} كرر فيه اسم الإشارة تنبيهاً على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كلاً منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم، ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين هاهنا بخلاف قوله: {أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون} فإن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف. و{هم}: فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة، ويفيد اختصاص المسند إليه، أو مبتدأ و{المفلحون} خبره والجملة خبر أولئك. والمفلح بالحاء والجيم: الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق. والفتح وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة. أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم. تنبيه: تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى، وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل، لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم، وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح له رأساً.