{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} (30)- وَيُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمٌ تَجِدُ فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا حَاضِراً أَمَامَهَا، فَمَا رَأَتْهُ مِنْ أَعْمَالِهَا حَسَناً سُرَّتْ بِهِ وَفَرِحَتْ، وَمَا رَأتْهُ قَبِيحاً تَودُّ لَوْ أنّها تَبَرَّأتْ مِنْهُ، وَأنْ يَكُون بَيْنَها وَبَيْنَهُ أمَدٌ بَعِيدٌ، وَيُحَذِّرُ اللهُ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ عِقَابِهِ، لأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ يُحِبُّ أنْ يَسْتَقِيمُوا عَلَى صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ، وَدِينِهِ القَوِيمِ. الأمدُ- المُدَّةُ المُحَدَّدَة. مُحْضَراً- حَاضِراً لَدَيْهَا أَوْ مُشَاهَداً فِي صُحُفِ أعْمَالِها. |
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (31)- هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ حِينَ دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَعْبَ بنَ الأشْرَفِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ اليَهُودِ إلى الإِيمَانِ، فَقَالوا: (نَحْنُ أبْنَاءُ اللهِ وَأحِبَّاؤُهُ). فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ، وَفِيهَا يَأمُرُ اللهُ نَبيَّهُ الكَرِيمَ بِأنْ يَقُولَ لَهُمْ: مَنِ ادَّعَى حُبَّ اللهِ دُونَ أن يَتَّبعَ شَرْعَ مُحَمَّدٍ، فَهُوَ غَيْرُ صَادِقٍ، فَدِينُ اللهِ وَاحِدٌ، وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ، وَالأدْيَانُ يَصَدِّقُ بَعْضُها بَعْضاً وَيُكَمِّلُها. وَجَاءَ دِينُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِيَخْتِمَ الأدْيَانَ السَّابِقَةَ وَيُكَمِّلَها، فَلا يُمْكِنُ أنْ يَدَّعِي أحَدٌ حُبَّ اللهِ، وَهُوَ يَكْفُرُ بِشَرْعِهِ وَمَا أنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِه. وَمَنْ يَتَّبعْ شَرْعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَيُخْلِصْ فِي ذَلِكَ يُحْبِبْهُ اللهُ، وَاتِّبَاعِ أمْرِهِ. وَاللهُ كَثِيرُ الغُفْرَانِ لِعِبَادِهِ، عَظِيمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». |
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} {الكافرين} (32)- وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: أَطِيعُوا اللهَ بِاتِّبَاعِ أوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَأطِيعُوا رَسُولَهُ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَدَعْوَتِهِ، فَإنْ رَفَضُوا ذَلِكَ، وَخَالَفُوا عَنْ أمْرِ اللهِ، فَهُمْ كَافِرُونَ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الكَافِرينَ. التَّوَلِّي- الإِعْرَاضُ بِالبَدَنِ. |
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} {ا ءَادَمَ} {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} {وَآلَ عِمْرَانَ} {العالمين} (33)- يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ اخْتَارَ هَذِهِ البُيُوتَ عَلَى سَائِرِ أهْلِ الأرْضِ، وَجَعَلَهُمْ صَفْوةَ العَالَمِينَ بِجَعْلِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ فِيهِمْ، فَاصْطَفَى آدَمَ وَخَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. وَاخْتَارَ نُوحا وَجَعَلَهُ أوَّلَ الرُّسُلِ، لَمَّا عَبَدَ النَّاسُ الأوْثَانَ وَأشْرَكُوا بِاللهِ. وَانْتَقَمَ اللهُ مِنْ قَوْمِهِ الذِينَ رَفَضُوا الاسْتِجَابَةَ إليهِ حِينَما دَعَاهُمْ إلى الحَقِّ. وَجَاءَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ تَفَرًّقَتْ ذُرِّيَّتُهُ وانْتَشَرَتْ فِي البِلادِ، وَفَشَتْ فيهم الوَثَنِيَّةُ، فَظَهَر إبراهِيمُ نَبِيّاً مُرْسَلاً، وَتَتَابَعَ المُرْسَلُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَآلِهِ كإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ، وَكَانَ مِنْ أرْفَعِ أوْلادِهِ ذِكْراً آلُ عِمْرانَ وَهُمْ عِيسَى وَأمُّهُ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ، وَخُتِمَتِ النُّبُوَّةُ بِولدِ إسْمَاعِيلَ محمدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَليهِ. اصْطَفَى- أخَذَ مَا صَفَا مِنَ الشَّيء- اخْتَارَ. آلِ عِمْرَان- عِيسى وَامِّهِ مَرْيَمَ بنْتِ عِمْرَانَ. |
{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)} (34)- وَهِيَ ذُرِّيةٌ صَالِحَةٌ تَوَارَثَتِ الصَّلاحَ وَالتُّقَى وَالإِيمَانَ بِاللهِ، وَهُمْ أشْبَاهٌ وَأمْثَالٌ فِي الخَيْرِ وَالفَضِيلَةِ التِي كَانَتْ سَبَباً فِي اصْطِفَائِهِمْ. الذُّرِّيَةُ- الأَنْسَالُ- الأَوْلادُ وَالأَحْفَادٌ وَأنْسَالُهُمْ. |
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)} {امرأت} {عِمْرَانَ} (35)- قِيلَ إنَّ امْرَأَةَ عِمرَانَ كَانَتْ عَاقِراً، فَرَأتْ طَائِراً يَزُقُّ فَرْخَهُ فَتَمَنَّتْ أنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ، فَدَعَتِ اللهَ أنْ يَرْزُقَها وَلَداً فَحَمَلَتْ. وَلَمَّا شَعَرَتْ بِالحَمْلِ نَذَرَتْ أنْ يَكُونَ حَمْلُها خَالِصاً مُتَفرِّغاً لِعِبَادَةِ اللهِ، وَخِدْمَةِ المَعْبَدِ. وَدَعَتِ اللهَ أنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهَا نَذْرَها، فَإنَّهُ تَعَالَى هُوَ السَّميعُ لِدُعَائِها، العَلِيمُ بِنِيَّتِها. النَّذْرُ- مَا يُوجِبُهُ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ. المُحَرَّرُ- المُخَصَّصُ لِلْعِبَادَةِ وَالخِدْمَةِ. |
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} {الشيطان} (36)- فَلَمَّا وَضَعَتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ حَمْلَها، وَرَأتْ أنَّهُ أُنثَى، تَحَسَّرَتْ عَلَى مَا رَأنْ مِنْ خَيْبَةِ رَجَائِها، فَإنَّهَا نَذَرَتْ أنْ تُحَرِّرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِخِدْمَةِ المَعْبَدِ، وَالانْقِطَاعِ لِلعِبادَةِ، وَالأنْثَى لا تُصْلُحُ لِذَلِكَ. وَقَالَتْ رَبِّ إنّي وَضَعْتُها أنْثَى، وَاللهُ أعْلَمُ بِمَكَانَةِ الأنثَى التِي وَضَعتَها، وَأنَّها خَيْبرٌ مِنَ الذُّكُورِ. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى فِي القُوَّةِ وَالجَلدِ فِي العِبَادَةِ، وَفِي احْتِمَالِ خِدْمَةِ المَعْبَدِ، وَقَالَتْ إني سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وَإني عَوَّذْتُها بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. أعِيذُهَا بِكَ- أَجْعَلُها فِي حِفْظِكَ وَرِعَايَتِكَ، وَعَاذَ فُلانٌ بِفُلانٍ إذا اسْتَجَارَ بِهِ. |
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} {يامريم} (37)- فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا نَذِيرَةً مُحَرَّرَةً لِلْعِبَادَةِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ، وَأحَسَنَ نَشْأَتَهَا وَنَباتَها، وَقَرَنَها بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، تَتَعَلَّمُ مِنْهُمُ العِلْمَ وَالخَيْرَ وَالدِّينَ. وَجَعَلَ زَكَريَا كَافِلاً لَهَا، إتْمَاماً لِسَعَادَتِهَا، لِتَقْتَبِسَ مِنْهُ العِلْمَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ. وَكُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا مَكَانَ مُصلاهَا (المِحْرَابَ) وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً، فَكَانَ زَكَرِيّا يَسْأَلُهَا مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا الرِّزْقُ يَا مَرْيَمُ؟ فَتَرُدُّ عَلَيهِ قََائِلَةً إنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ الذِي يَرْزُقُ النَّاسَ جَمِيعاً بِتَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَهُوَ تَعَالَى يََرْزُقَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ رِزْقاً كَثِيراً بِلا حُدُودٍ؟ تَقَبَّلَهَا رَبُهَا- قَبِلَهَا رَاضِياً بِهَا. أَنْبَتَهَا- رَبَّاهَا وَجَعَلَ زَكَرِيَّا كَافِلاً لَهَا وَرَاعِياً لِمَصَالِحِهَا. المِحْرَابَ- المُصَلَّى أَوْ غُرْفَةَ العِبَادَةِ. |